20 December, 2013

فضلات الشيطان

فضلات الشيطان

طالب مراد

فى اوائل السبعينات قال وزير النفط الفنزويلى و احد مؤسسى منظمة الاوبك النفطية السيد " خوان بابلو الفونسو " أن النفط سيجلب الدمار لبلدنا . و فوجئ الجميع بهذا التصريح المدهش . فى الوقت الذى كان النفط يدر على فنزويلا دخلا هائلا و تضخمت ميزانية البلد ووصلت الى ارقام قياسية . و اعتقد الفنزوليون بأن النفط سيرفع من شأن بلادهم الى مصاف الدول العظمى . ووسط كل هذه التوقعات اطلق "ألفونسو" على النفط بــ ( فضلات الشيطان ).

 قبل ان تصبح فنزويلا دولة نفطية كانت بها حكومة ديمقراطية و معدل دخل الفرد كان الاعلى فى امريكا اللاتينية و الان – فى عام 2003 وقت كتابة المقال - فإن فنزويلا على ابواب حربا اهلية و دخل الفرد يقل بنسبة 60 % عما كان يحصل عليه الفرد عام 1960.

  ان حالة فنزويلا ليست شاذة بل هى نموذج للدول التى تشكو من لعنة الموارد الطبيعية النفطية . وفى عام 1995 نشر كل من " جفرى ساج  و اندرو وارنر " تقرير حول تطور اقتصاديات الدول النامية و التى تعتمد اقتصاديا على الثروات المعدنية خاصة النفط ، و ذكر التقرير أن هذه الدول كلما زاد اعتمادها على عائدات ما يستخرج من تحت الارض كلما اصبحت أفقر ما عدا بعض الدول ذات الكثافة السكانية المنخفضة .

  كيف ذلك ..؟! قالوا بأن اوضاع هذه الدول اقتصاديا تشبه اوضاع المُغنيين المشهورين الذين يحصلون على ثروات ضخمة بشكل سريع الذين عادة ما يعلنون افلاسهم بسرعة حالهم كحال الدول النفطية.. لان كثرة عائداتهم تجعلهم يصرفون دون قيد او رابط و هذا ما يعرضهم للافلاس و تصبح هذه الدول دول ريعية و لا احد يدفع الضرائب . لاسيما انه لا يوجد احد من مواطنى هذه الدول التى تعوم على النفط و تحصل على  الدولارات النفطية يدفع ضرائب . لقد صرح احد الرؤساء الفنزولين السابقين بأن الاغبياء هم فقط من يدفعون الضرائب و قال أن الدولة اصبحت مبذرة و هذا الاسراف لا يمكن لاحد ان يوقفه حيث تعود المواطنين على الاسراف والبذخ  ووصلوا الى طريق اللاعودة .

و تبدأ الدورة الاقتصادية لهذه الدول بأقتصاد لا يمكنه امتصاص الكم الهائل من العائدات بشكل مدروس التى تسبب ارتفاع الاسعار و تحسن وضع العملة المحلية . و هذا يحرم الانتاج المحلى من المنافسة و المكافأت الحكومية عادة تصرف بدون معايير و بذخ شديد و تتزايد بسرعة فائقة و لذلك الفقاعة الاقتصادية تنمو بسرعة هائلة . عندما تخرج الدولارات النفطية من تحت الارض و بكميات هائلة تقوم الكثير من الطبقات الحاكمة
 والمتنفذه بالحصول على هذه الثروة الطائلة التى يكون من السهل الحصول عليها . وهذا  اسهل من ان يبدأوا هم والبرجوازية الوطنية  مشاريع صناعية او زراعية غير مضمونة المردود .

ان سهولة الحصول على موارد كثيرة و بسرعة و من دون اى جهد سيكون ذو مردودين احدهما تضخم فى القطاع العام - مرتبات ؛ سيارات ؛ و اشياء غير بناءة  ومنتجة – و المردود الثانى هو انهيار القطاع الخاص الذى يحاول التنمية فى مجالات الزراعة و الصناعة .

 ان ثروة الذهب التى حصلت عليها اسبانيا فى القرن السادس عشر و التى نهبتها من امريكا اللاتينية قد صرفت فى وقتها من قبل العائلة المالكة بجنون و ضخمت من حجم جيشها بزيادة 15 مرة عما كان عليه قبل الحصول على الذهب ..حيث ارسل هذا الجيش العرمرم لاحتلال مناطق اخرى من امريكا اللاتينية للحصول على المزيد من الذهب و هذه بدورها ادت الى تأخر قطاعات الصناعة و الزراعة و خلقت طبقة طفيلية من النبلاء و الان فى الوقت الحاضر الطبقات الحاكمة  و الامراء فى دول الخليج يسيرون على نفس نهج النبلاء الاسبان الذين كانوا سادة تلك الفترة منذ 4 او 5 قرون تقريبا ، و كان الشغل الشاغل للطبقة الارستقراطية فى اسبانيا هو انتظار وصول البواخر الى الموانىء الاسبانية محملة بالذهب . و اخذت هذه السفن تقل تدريجيا بعد ان نضبت منابع الذهب المسلوب و كان هذا سبب فى تأخر و شلل فى قطاعى الصناعة و الزراعة و اصبحت اسبانيا عاجزة عن اطعام  شعبها و حدثت مجاعات و اعلنت افلاسها ثمانى مرات و خرجت من قائمة الدول الاوربية العظمى فى ذاك الوقت و اصبحت دولة ثانوية .

 لقذ ذكر " تيرى لين " فى كتابه مفارقات الوفرة ان اكتشاف النفط و قيام دول الدولارات النفطية قد سبب خلل فى الوضع الاقتصادى و هكذا المثل الفنزويلى حيث اعتقد الجميع فى ذلك البلد ان الخلاص و تحسن الاوضاع مرتبط بالدولارات النفطية و ركز الرئيس " جافييز " ووصل الحكم و استخدم كلمة ( محاربة الفساد ) بالركوب على هذه الموجة و السيطرة على السلطة لفترة طويلة و بتأييد شعبى كبير . و لكن غاب عنه و عن شعبه بأن النفط ( ليس اقتصاد ) لان الاقتصاد و ادواته يجب ان يكون مستداما و يتمتع بنوع من الاستمرارية . و الاستدامة فى الاوضاع الاقتصادية مفقودة فى الدول التى تعتمد على مصدر واحد لتحسن اقتصادها . ان النفط يخرج من الارض الى براميل و منها الى يد طبقة حاكمة و متنفذة . و لهذا ان النمو الاقتصادى فى فنزويلا بلغ نصف ما عليه فى دول امريكا اللاتينية الاخرى .

  كيف نتخلص من هذه اللعنة ..؟! هناك دول صغيرة مثل ماليزيا و النرويج لم تقع فى الفخ الفنزويلى حيث صرفوا عائدات نفطهم بعقلانية و تمعن و استغلوا الثروة لتكوين مصادر اخرى لتقوية اقتصادهم . فى فنزويلا ( حتى تاريخ المقالة الاصلية ) كان النفط يشكل 80 % من مجموع صادرتها .

و فى القرن السادس عشر وصف اقتصادى اسبانى بلاده  ( من جعلت اسبانيا دولة فقيرة هى ثرواتها ) هذا ما هو الا درس لفنزويلا التى تصل بواخراها خالية لموانيها كما فعل الاسبان قبل 5 قرون . و سيعيد التاريخ نفسه وعلينا ان نهيىء انفسنا للفترة التى تعود فيها بواخرنا و هى خالية . و يجب الا تلهينا فضلات الشيطان عن اساسيات الاقتصاد المستديم .
-----------------------------------------------------------------------------------------
*
نشرت هذه المقالة فى يوم 3 فبراير 2003 فى مجلة ( فورجن ) الامريكية و اذاعتها فى وقتها محطة ( السى ان ان ) ، شخصيا اعتقد بأن هذا المقال يتميز عن غيره و " فترة صلاحيته" ممتدة الى الان و اعتقد انها ستمتد الى سنوات اخرى قادمة.