20 June, 2013

المتمرد.......وسمك الجري"القرموط"

انطلقت في اسي وحزن بالغ باحثة عن اشلاء زوجها في كل مكان "بالنهر العظيم". وتمكنت وهي تجري لاهثة فوق امواج النيل من جمعها كلها.. "باستثناء قطعة ما (الذكر)"، كانت قد ابتلعتها سمكة الانومة (الحقيقه كانت سمكة القرموط " الجري" لان فم سمك الانومة ضيق جدا وانبوبي). وبمساعدة اختها  "نفتيس"  وابنها  "انوبيس"  رب الجبانات (المقابر) تمكنت من اعداد مومياء اوزيريس، (الاولي عبر التاريخ كله) وتحنيطها، وعمل الطقوس اللازمة، ولفها بالضمادات ودفنها بمكان فائق السرية حتي يحظي زوجها بالخلود والابدية في العالم الاخر.
 ولم تتوقف اسطورة حب "ايزيس واوزيريس" عند هذا الحد فقد انطلقت "ايزيس " إلي احراش البردي، وعاشت بها، متسترة خلال التسعة اشهر - فترة حملها - بعيدا عن اعين الشيطان "ست" وهناك، انجبت "حورس" وهيأته ليكون وريثا لعرش ابيه "اوزيريس"..ان ايزيس لجديرة حقا بهذه الترانيم الجميلة: "ايزيس..انت، انت ربة الارض التي جعلت قدرة المرأة تتساوي مع قدرة الرجل". أو : "كان قلبها اكثر شجاعة وفطنة من مليون رجل".  هذه الاسطورة وقبل اكثرمن ستة الاف عام صُنف سمك "القرموط" او"الجري" ضمن المحرمات عند المصريين القدماء.
تقول أسطــــورة نوبية , ان النوبى الاصيل لا يأكل من سمك " الجري-القرموط" , حتى وان كان سيموت من الجوع , لأن جد النوبين الاول فى بداية تشكيل الارض , عندمــا كان هناك فقط النوبى الذى وجد على هذه الارض ليعمرها (ادم  الاصلي حسب الاسطورة), تمهيدا لاستقبال باقى البشر على هذه الدنيــا , قد اكــلته سمكة " جري- قرموط" ضخمــة , ومنذ هذا اليوم , وبعد مرور سنوات تحسب بالالاف لا يـــزال النــــوبى محرمــا عليه لحم هذه السمكــة, طبعا الأسطورة تحمل فانتازيــا واضحة , ولكن "افندية " النوبيين الان وبعد مرور الاف السنين على الاسطوره يعزون  السبب وراء وقائع الأسطورة أن سمك "القرموط" يعتبر خنزير الاسماك , فهو يأكل كل ما يصادفه فى طريقه, حتى ان تركيبه التشريحــى يحتوى على طبقة عظمية عكس كل الأسمـــاك التى تكسى اجسامها بحراشيف وقـــشور يقال ايضا ان القرموط يحيض !!!( اتُهم الارنب بنفس التهمة من قبل احدى الطوائف الاسلامية). كان قدماء المصريين يطلقون علي بلاد النوبة بلاد" كوشحيث يعيش شعب النوبة، وهي تمتد من اسوان وحتي مدينة  سوبا التي أصبحت تعرف باسم  الخرطوم وحيث قامت ممالك إمتد نفوذها علي وادي النيل مرور بمصر والاردن.
قبل ظهور الديانة المسيحية بخمسة قرون اوصى موسى شعب اسرائيل في "كتاب التوراة القديم " بعدم تناول اطعمه كثيرة وصنّف الاطعمة التي يجب ان تدخل والتي لايجب  ان تدخل الى جهاز هضم اليهود. حيث حرم اكل لحم الخنزير لان هذا الحيوان لايجتر رغم ان له اظلاف مثل  اظلاف الماشية ...ولم تكن الاسباب التي تُذكر الان الخاصة بعدم اكل الخنزير معروفة انذاك ..وحرم موسى على اليهود  اكل الابل لكونها لاتملك اظلاف مشقوقة مثل المجترات رغم انها من الحيوانات المجترة . كما حرم على اليهود اكل  اي مخلوق مائي لايملك الحراشف والزعانف وهذا بطبيعة الحال يشمل "الجري" وكائنات بحرية اخرى.
لم يتناول الكنعانين والفينيقين لحم الخنزير علما بأن حضاراتهم وُجدت قبل تعاليم موس باكثر من الف عام وديانتهم كانت عبارة عن مجموعة من طقوس وعبادات خاصه بهم  .
لم ياكل المصريون والنوبيين القدماء واليهود سمك "الجري" بسبب هذه الاساطير التي اقنعهم بها كهنة عصرهم على انها تعاليم من الاله رغم وجود هذا النوع من السمك بكثرة في النيل. نعم لقد حرم المصريين انفسهم من هذا الطعام اللذيذ لان كهنتهم اعتمدوا على اسطورة "اوزيريس" والتي تعود لعصر سحيق للغاية على ارض مصر, عصر سبق ملحمة كلكلمش بالاف السنين وجاء موسى ليعزز موقف الاساطير القديمة بقائمة سماويه طويلة من الممنوعات.
 وقد سبق وان ناقشت انا شخصيا "قائمة  موسى" والملابسات العلمية فيها وتصنيفه غير الدقيق للحيوانات معتمدا على عملية الاجترار وشكل الاظلاف والاقدام والحوافر,ضمن مقدمة اطروحة دكتوراة  قدمتها لجامعة ليفربول عام 1974 وكانت حول موضوع  فسيولوجي جهاز هضم المجترات. أن الديانة الاسلامية ألتزمت بتعاليم وتوصيات "موس" بحذافيرها بكل ما يخص طعام المسلم وبعد مرور اكثر من ألف عاما على توصيات موسى تبنى المذهب الجعفري من دون المذاهب الاسلامية الاخرى وحرم اكل لحوم الارنب والارنب البري والجري مستندتا على تفسيرات النبي موسى في كل ما يدور حول الغذاء.الا ان الاسلام  اهمل تعاليم وتوصيات موسى بعدم اكل لحوم الابل وذالك لان الابل كانت من اهم الحيوانات الشائعه في الجزيرة العربية مهد الحضارة الاسلامية.  كانت ألصقها بحياتهم في مطعمهم من لحمها ومشربهم من ألبانها ، وملبسهم من أوبارها وجلودها ، وفي حلهم وترحالهم بالحمل عليه . أن تطبيق تعاليم موسى في الجزيرة العربية انذاك كانت ستؤدي الى مجاعة وكما كانت المياه هي اصل حضارة العراق فان الابل كانت  عنصر البقاء في الجزيرة . 
 
  لا اعرف ماذا ستقول البشرية والاجيال القادمة عن جيلنا الحاضر وتعاويذنا وممارساتنا الدينية ومعتقداتنا؟!  نعم.. ماذا سيقولون عن كهنتنا الحاليين واساطيرهم  وخرافاتهم وكيف يتحكم هولاء بمقدراتنا باسم الدين ومشتقات الدين و كيف يصنفون الانسان على هواهم ويوزعوننا ويصنفوننا  على الجنة والنار  ونحن مازالنا على الارض ويعينون انفسهم سماسره بين البشر والخالق سبحانه وتعالى؟؟؟!!!.  ان الاجيال القادمة  ستحكم و ربما تتهكم على عاداتنا وطقوسنا ومعتقداتنا هذا لواستمرت بقاء البشرية ولم تفنيها الحضارة  الحالية  بما تم من اختراعه لحد الان من وسائل تدمير عسكرية و تخريب للبيئية.
الغريب  وحسب علمي ان الديانة المسيحية لم تقترب من "منيو- قائمة الطعام" الاغذية ولم تلتزم بتعاليم النبي موسى وسمحت للمسيحين بتناول مايشتهون من اكل وشرب وقدموا في انها حلولا ناجحة لازمة الامن الغذائي.
 
واتذكر جيدا كنت في مهمة  لتقصي الحقائق للامم المتحده في دول افريقية ايام جفاف وقحط  عام1991 وفي  جمهورية ملاوي وبعد مضي يوم مضني في  العمل الشاق ومن دون طعام ,تمكنا عصرا من الوصول الى شواطى واحة ملاوي وانتهى بنا الامر, انا و زميل سوداني الدكتور" بناكه" والسائق الملاوي , في كشك من الصفيح  . وطلبنا طعاما من القدر الكبير و الوحيد الموجود في المطعم اوالمقهى  لحظات واذا بثلاثة صحون ألومنيوم كبيره كل منها يتوسطه قطعة كبيرة من لحم "الجري" المسلوق  أُلقيت على طاولتنا ومن دون اي شي حتى ولا ملاعق وسكاكين. وحسب تجربتي فلو صنفنا الجوع الى انواع فان الجوع الافريقي هوالاقسى لذا هجمنا على ما قدم لنا ناخذ قطع منها نقطعها باصابعنا ونلتهمها. وبعد ان اشبعنا قسم من "عصافير بطوننا" لاحظت ان السائق الافريقي لم يمد يده للطعام وكان على مايبدو مشمئزا من طعامنا والذي لم نجد غيره لناكل وعلى طول مئات الكيلومترات التي قطعناها  ذلك اليوم.
 
وعندما سألته لما ذا لايأكل معنا قال" انا مسيحي" و هنا نظر زميلي السوداني  لي وضحك. علما ان الديانة المسيحية لم تتطرق الى "منيو" الجهاز الهضمي للانسان مبتعدةَ عن التعاليم اليهودية وكذلك لم تتطرق المسيحية  بأي شكل من الاشكال إلى الجهاز التناسلي وملحقاته  للنساء والذي ذكر بكثرة  مملة في الدين والمذاهب الاسلامية واصبح الشاغل الاوحد لفتاوى شلة ممن يسمون "بعلماء" المسلمين ومن المخجل  ان هذا الموضوع المناهض لروح العصر يتزايد واصبحنا نسمع لفتاوى ما انزل الله به من سلطان...
أن سبب ضحكة زميلي "د. بناكه" اثناء الاكل في الكشك  كانت لانه في يوم سابق كنا واثناء عملنا  في سوق لمدينة صغيرة واقعة على نفس الواحة وهناك رأينا سمكة جري كبيرة جدا تباع بالقطاعي وفي وقتها تبرعت لزميلي ببعض المعلومات عن السمكة المقطعة والملقية على الارض. كما اخبرته بأنني كشيعي يحرم علي اكل لحم هذا النوع من السمك. اعتقد  بأن المعلومة الاخيرة التي استلمها مني صدمته ولم يكن يتوقعها واراد ان يعرف السبب لماذا حُرم علي الجري؟ فقلت له ان السبب يعود الى خرافة وهي انه كان الامام علي "عليه السلام" يتوضأ فقفزت سمكة "الجري" وتوسخ الامام علي عليه السلام بسببها. نعم لقد ضحك للطريقة التي كنت ألتهم قطعة السمك التي ألقاها صبي المطعم على طاولتنا متذكرا ماذكرت قبل يوم.
و في مراهقتي وشبابي كنت اسكن قريبا من منطقة باب الشيخ في بغداد حيث كان يعيش ولاجيال ابناء ملتي وليس ببعيد عنا وقريبا من مقبرة الامام الكيلاني كانت توجد عدة بسطات لقلي وبيع سمك الجري وبسعر رخيص لان سعر هذا النوع من السمك كان رخيصا في العراق اذ كان الصيادون الشيعة في جنوب العراق والاهوار حيث تتواجد هذا النوع من الاسماك بكثرة يلقون بصيدهم من هذا النوع من السمك على الشواطئ للتخلص منها وكانت هنا طبقة من صيادي "البراري- او الجرف" وكانوا عادة من السنة ومن اهل وسط العراق والذين كان صيدهم عبارة عن جمع اسماك  الجري التي حذفها الصيادين الشيعة على الشواطئ. ويمكننا القول ان هذه السمكة الملعونة هي من اشعلت الفتن الطائفية في العراق بعقود قبل تشكيل المليشيات الطائفية فيها !!!.
أن هذه السمكه وعبر الاف السنين وعبر سلسلة من الحضارات المختلفة  كالمصرية القديمة والنوبية و اليهودية والمسيحية انتهت في مقليات كبيرة تباع قريبا من سكني وبسعر رخيص حتى انا وبمصروفي اليومي البسيط  كنت قادرا على شراء قطع منها مع زملائي واقربائي  وابناء جيلي اللذين حرم علينا مذهبنا الشيعي تناولها وكنا نشتري و نخبى هذه الممنوعات في تلافيف ملابسنا.  كانت قطع الاسماك تلك تلف بورق الجرائد (مثل الفيش والشيبس البريطانية) ونجتمع  في سطح بيت احدنا  سرا وبكل حذر خوفا من الكبار . وكنا  نأكل السمك المقلي معلنيين تمردنا على ذوينا واولياء امورنا, كما يتناول هذه الايام المراهقين والشباب الدخان والكحول ومحظورات اقوى معلنين تمردهم على كل ما هوغير مسموح.
أن اكل سمك "الجري" سرا عَلمنا اخذ الخطوات الاولى  في طريق التمرد والتحدي على ما كان سائدا انذاك. وان تلك السمكة كان لها الدور في خلق الابداعات و التفكير بالتغير بين ابناء جيلنا في الاحياء التي كنا نسكن فيها.




 





.